Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
20 juin 2007 3 20 /06 /juin /2007 23:53

krs-115635-5810s.jpg

 
بـيان شواهد النقل من أرباب البصائر وشواهد الشرع على أن الطريق في معالجة أمراض القلب ترك الشهوات وأن مادة أمراضها هي اتباع الشهوات:
اعلم أن ما ذكرناه إن تأملته بعين الاعتبار انفتحت بصيرتك وانكشفت لك علل القلوب وأمراضها وأدويتها بنور العلم واليقين، فإن عجزت عن ذلك فلا ينبغي أن يفوتك التصديق والإيمان على سبـيل التلقي والتقليد لمن يستحق التقليد، فإن للإيمان درجة كما أن للعلم درجة، والعلم يحصل بعد الإيمان وهو وراءه قال الله تعالى: {يَرْفَعُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ} فمن صدّق بأن مخالفة الشهوات هي الطريق إلى الله عز وجل ولم يطلع على سببه وسره فهو من الذين آمنوا، وإذا اطلع على ما ذكرناه من أعوان الشهوات فهو من الذين أوتوا العلم وكلّاً وعد الله الحسنى.
والذي يقتضي الإيمان بهذا الأمر في القرآن والسنة وأقاويل العلماء أكثر من أن يحصر. قال الله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فإنَّ الجَنَّة هيَ المَأْوَى} وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ للتَّقْوَى} قيل نزع منها محبة الشهوات. وقال : «المُؤْمِنُ بَـيْنَ خَمْسِ شَدائِد: مُؤْمِنٌ يَحْسُدُهُ وَمُنَافِقٌ يَبْغُضُهُ وَكَافِرٌ يُقَاتِلُهُ وَشَيْطَانٌ يُضَلُّهُ وَنَفْسٌ تُنَازِعُهُ» ، فبـين أن النفس عدوّ منازع يجب عليه مجاهدتها.
ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود حذر وانذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة. وقال عيسى عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره، وقال نبـينا لقوم قدموا من الجهاد: «مَرْحَباً بِكُمْ قَدِمْتُمْ مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ» قيل يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: «جِهَادُ النَّفْسِ» ، وقال : «المُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ» ،
وقال : «كُفَّ أَذَاكَ عَنْ نَفْسِكَ وَلا تُتَابِعْ هَوَاها فِي مَعْصِيةِ الله تَعَالَى إذَنْ تُخَاصِمُكَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَلْعَنُ بَعْضُكَ بَعْضاً إلاَّ أَنْ يَغْفِرَ الله تَعَالَى وَيَسْتُرَ» ، وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نفسي مرةلي ومرة عليَّ، وكان أبو العباس الموصلي يقول لنفسه: يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين ولا في طلب الآخرة مع العباد تجتهدين كأني بك بـين الجنة والنار تحبسين، يا نفس ألا تستحين وقال الحسن: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك.
وقال يحيـى بن معاذ الرازي: جاهد نفسك بأسياف الرياضة. والرياضة على أربعة أوجه: القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام وحمل الأذى من جميع الأنام فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات، ومن قلة المنام صفو الإرادات، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى، البلوغ إلى الغايات وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء والصبر على الأذى، وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت عليها سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والانتقام، فتأمن من بوائقها من بـين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها؛ فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية فتجول في ميدان الخيرات وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان وكالملك المتنزه في البستان. وقال أيضاً: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه وشيطانه ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات.
قال بعض الحكماء: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها؛ محصوراً في سجن هواها، مقهوراً مغلولاً زمامه في يدها تجره حيث شاءت فتمنع قلبه من الفوائد. وقال جعفر بن حميد: أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يدرك إلا بترك النعيم. وقال أبو يحيـى الوراق: من أرضى الجوارح بالشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات. وقال وهيب بن الورد: ما زاد على الخبز فهو شهوة. وقال أيضاً: من أحب شهوات الدنيا فليتهيأ للذل.
ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام ــــ بعد أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابـية الطريق في يوم موكبه وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفاً من عظماء مملكته ــــ سبحان من جعل الملوك عبـيداً بالمعصية وجعل العبـيد ملوكاً بطاعتهم له.
إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبـيداً وذلك جزاء المفسدين، وإن الصبر والتقوى صيرا العبـيد ملوكاً... فقال يوسف: كما أخبر الله تعالى عنه: {إنَّه مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ} .
وقال الجنيد: أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلمأجد الحلاوة التي كنت أجدها، فأردت أن أنام فلم أقدر، فجلست فلم أطق الجلوس، فخرجت فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بـي قال: يا أبا القاسم إلى الساعة، فقلت: يا سيدي من غير موعد؟ فقال: بلى سألت الله عز وجل أن يحرك لي قلبك، فقلت: قد فعل فما حاجتك؟ قال: فمتى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها؛ فأقبل على نفسه فقال: اسمعي فقد أجبتك بهذا سبع مرات فأبـيت أن تسمعيه إلا من الجنيد ها قد سمعتيه، ثم انصرف وما عرفته. وقال يزيد الرقاشي: إليكم عني الماء البارد في الدنيا لعلي لا أحرمه في الآخرة. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام. وقال علي رضي الله عنه: من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا. وكان مالك بن دينار يطوف في السوق فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك عليَّ.
فإذن قد اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات، فالإيمان بهذا واجب. وأما علم تفصيل ما يترك من الشهوات وما لا يترك فلايدرك إلا بما قدمناه. وحاصل الرياضة وسرها أن لا تتمتع النفس بشيء مما لا يوجد في القبر إلا بقدر الضرورة، فيكون مقتصراً من الأكل والنكاح واللباس والمسكن وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة، فإنه لو تمتع بشيء منه أنس به وألفه، فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا بسببه ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا من لا حظ له في الآخرة بحال، ولا خلاص منه إلا بأن يكون القلب مشغولاً بمعرفة الله وحبه والتفكر فيه والانقطاع إليه، ولا قوّة على ذلك إلا بالله، ويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الذكر والفكر فقط. فمن لم يقدر على حقيقة ذلك فليقرب منه والناس فيه أربعة:
الأول: رجل مستغرق قلبه بذكر الله فلا يلتفت إلى الدنيا إلا في ضرورات المعيشة فهو من الصديقين. ولا ينتهي إلى هذه الرتبة إلا بالرياضة الطويلة والصبر عن الشهوات مدة مديدة.
الثاني:
رجل استغرقت الدنيا قلبه ولم يبق لله تعالى ذكر في قلبه إلا من حيث حديث النفس، حيث يذكره باللسان لا بالقلب فهذا من الهالكين.
والثالث: رجل اشتغل بالدنيا والدين، ولكن الغالب على قلبه هو الدين فهذا لا بد له من ورود النار إلا أنه ينجو منها سريعاً بقدر غلبة ذكرالله تعالى على قلبه.
والرابع: رجل اشتغل بهما جميعاً، ولكن الدنيا أغلب على قلبه فهذا يطول مقامه في النار لكن يخرج منها لا محالة لقوة ذكر الله تعالى في قلبه وتمكنه من صميم فؤاده، وإن كان ذكر الدنيا أغلب على قلبه. اللهم إنا نعوذ بك من خزيك فإنك أنت المعاذ.
وربما يقول القائل إن التنعم بالمباح مباح، فكيف يكون التنعم سبب البعد من الله عز وجل؟ وهذا خيال ضعيف بل حب الدنيا رأس كل خطيئة وسبب إحباط كل حسنة. والمباح الخارج عن قدر الحاجة أيضاً من الدنيا وهو سبب البعد ــــ وسيأتي ذلك في كتاب ذم الدنيا ــــ وقد قال إبراهيم الخواص: كنت مرة في جبل اللكام فرأيت رماناً فاشتهيته فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها، فرأيت رجلاً مطروحاً وقد اجتمعت عليه الزنابـير فقلت: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا إبراهيم، فقلت: كيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله عز وجل لم يخف عليه شيء، فقلت: أرى لك حالاً مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من هذه الزنابـير؟ فقال: وأرى لك حالاً مع الله تعالى فلو سألته أن يحميك من شهوة الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ولدغ الزنابـير يجد ألمه في الدنيا، فتركته ومضيت. وقال السري: أنا منذ أربعين سنة تطالبني نفسي أن أغمس خبزة في دبس فما أطعتها.
فإذن لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعم بالمباح، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات، فمن أراد حفظ لسانه من الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت؛إلا عن ذكر الله وإلا عن المهمات في الدين، حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة. ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إلا ما لا يحل، وكذلك سائر الشهوات، لأن الذي يشتهي به الحلال هو بعينه الذييشتهي الحرام، فالشهوة واحدة وقد وجب على العبد منعها من الحرام فإن لم يعوّدها الاقتصار على قدر الضرورة من الشهوات غلبته. فهذه إحدى آفات المباحات ووراءها آفات عظيمة أعظم من هذه، وهو أن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا وتركن إليها وتطمئن إليها أشراً وبطراً حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره.
وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال يوم القيامة، وهذا هو موت القلب. قال الله تعالى: {وَرَضُوا بالحَياةِ الدُّنْيَا واطْمَأنُّوا بِهَا} وقال تعالى: {وَمَا الحَياةُ الدُّنيا في الآخِرَةِ إلاَّ مَتَاعٌ} وقال تعالى: {اعْلَمُوا أنَّما الحَياةُ الدُّنيا لَعِبٌ وَلْهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَـيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأمْوالِ والأولاَدِ} الآية. وكل ذلك ذم لها فنسأل الله السلامة.
فأولو الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمؤاتاة الدنيا فوجدوها قاسية نفرة بعيدة التأثر عن ذكر الله واليوم الآخر، وجربوها في حالة الحزن فوجدوها لينة رقيقة صافية قابلة لأثر الذكر. فعلموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعد من أسباب الفرح والبطر، ففطموها عن ملاذها وعوّدوها الصبر عن شهواتها ــــ حلالها وحرامها ــــ وعلموا أنحلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب وهو نوع عذاب، فمن نوقش الحساب في عرصات القيامة فقد عذب. فخلصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك الدائم في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها والأنس بذكر الله عز وجل والاشتغال بطاعته. وفعلوا بها مايفعل بالبازي إذا قصد تأديبه ونقله من التوثب والاستيحاش إلى الانقياد والتأديب؛ فإنه يحبس أولاً في بـيت مظلم وتخاط عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جوّ الهواء، وينسى ما قد كان ألفه من طبع الاسترسال، ثم يرفق به باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفاً إذادعاه أجابه، ومهما سمع صوته رجع إليه. فكذلك النفس لا تألف ربها ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها بالخلوة والعزلة أوّلاً ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات، ثو عودت الثناء والذكر والدعاء ثانياً في الخلوة حتى يغلب عليها الأنس بذكر الله عز وجل عوضاً عن الأنسبالدنيا وسائر الشهوات، وذلك يثقل على المريد في البداية ثم يتنعم به في النهاية، كالصبـي يفطم عن الثدي وهو شديد عليه إذا كان لا يصبر عنه ساعة فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام، ويشتد نفوره عن الطعام الذي يقدم إليه بدلاً عن اللبن، ولكنه إذا منع اللبن رأساًيوماً فيوماً وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفاً، ثم يصير له طبعاً. فلو ردَّ بعد ذلك إلى الثدي لم يرجع إليه، فيهجر الثدي ويعاف اللبن ويألف الطعام. وكذلك الدابة في الابتداء تنفر عن السرج واللجام والركوب فتحمل على ذلك قهراً،
وتمنع عن السرج الذي ألفته بالسلاسل والقيود أوّلاً، ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها فتقف فيه من غير قيد. فكذلك تؤدب النفس كما تؤدب الطير والدواب، وتأديبها بأن تمنع من النظر والأنس والفرح بنعيم الدنيا بل بكل ما يزايلها بالموت، إذ قيل له أحبب ما أحببت فإنك مفارقه. فإذا علم أنه من أحب شيئاً يلزمه فراقه ويشقى لا محالة لفراقه شغل قلبه بحب ما لا يفارقه وهو ذكر الله تعالى، فإن ذلك يصحبه في القبر ولا يفارقه. وكل ذلك يتم بالصبر أولاً أياماً قلائل فإن العمر قليل بالإضافة إلى مدة حياة الآخرة وما من عاقل إلا وهو راض باحتمال المشقة في سفر وتعلم صناعة وغيرها شهراً ليتنعم به سنة أو دهراً. وكل العمر بالإضافة إلى الأبد أقل من الشهر بالإضافة إلى عمر الدنيا. فلا بد من الصبر والمجاهدة. فعند الصباح يحمد القوم السرى وتذهب عنهم عمايات الكرى، كما قاله علي رضي الله عنه.
وطريق المجاهدة والرياضة لكل إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله. والأصل فيه أن يترك كل واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا، فالذي يفرح بالمال أو بالجاه أو بالقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الأتباع في التدريس والإفادة، فينبغي أن يترك أوّلاً ما به فرحه، فإنه إن منع عن شيء من ذلك وقيل له ثوابك في الآخرة لم ينقص بالمنع فكره ذلك وتألم به فهو ممن فرح بالحياة الدنيا واطمأن بها، وذلك مهلك في حقه. ثم إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس ولينفرد بنفسه وليراقب قلبه حتى لا يشتغل إلا بذكر اللهتعالى والفكر فيه. وليترصد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس حتى يقمع مادته مهما ظهر، فإن لكل وسوسة سبباً ولا تزول إلا بقطع ذلك السبب والعلاقة. وليلازم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا بالموت.
بـيان علامات حسن الخلق:
اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتىترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة، فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق. فإن حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق. وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق. فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ} وقال عز وجل:
{التائبون العابدون الحامدون} إلى قوله {وَبَشِّرِ المُؤْمِنينَ} وقال عز وجل: {إنَّما المُؤْمِنونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنونَ حقاً} وقال تعالى: {وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وإذَا خَاطَبهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً} إلى آخر السورة. ومن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بتحصيل ما فقده وحفظ ما وجده. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال: «المُؤْمِنُ يُحِبُّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، وقال عليه السلام: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» ،وقال : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» ، وقال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنْ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» ، وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق، فقال : «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيماناً أَحْسَنُهُمْ أَخْلاقاً» ، وقال : «إذا رَأَيْتُمُ المُؤْمِنَ صَمُوتاً وَقُوراً فَادْنُوا مِنْهُ فَإنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ» ، وقال: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» ، وقال: «لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنِ أَنْ يُشِيرَ إلَى أَخِيهِ بِنَظْرَةٍ تُؤْذِيهِ» ، وقال عليه السلام: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَرُوعَ مُسْلِماً» ، وقال : «إنَّما يَتَجَالَسُ المُتَجَالِسَاِن بِأَمَانَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ فَلا يَحِلُّ لأَحَدِهِمَا أنْ يُفْشِيَ عَلَى أخِيهِ ما يَكْرَهُهُ .
وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، براً وصولاً وقوراً صبوراً شكوراً، رضياً حليماً رفيقاً عفيفاً شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً ولا عجولاً ولا حقوداً ولابخيلاً ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله فهذا هو حسن الخلق.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامة المؤمن والمنافق فقال: «إنَّ المُؤْمِنَ هِمَّتُهُ فِي الصَّلاةِ وَالصِّيِامِ وَالعِبَادَةِ،
وَالمُنَافِقُ هِمَّتُهُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَالبَهِيمَةِ» ، وقال حاتم الأصم: المؤمن مشغول بالفكر والعبر، والمنافق مشغول بالحرص والأمل، والمؤمن آيس من كل أحد إلا من الله، والمنافق راج كل أحد إلا الله، والمؤمن آمن من كل أحد إلا من الله، والمنافق خائف من كل أحد إلا من الله، والمؤمن يقدم ماله دون دينه، والمنافق يقدم دينه دون ماله، والمؤمن يحسن ويبكي، والمنافق يسيء ويضحك، والمؤمن يحب الخلوة والوحدة، والمنافق يحب الخلطة والملأ، والمؤمن يزرع ويخشى الفساد، والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، والمؤمن يأمر وينهى للسياسة فيصلح، والمنافق يأمر وينهى للرئاسة فيفسد.
وأولى ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفاء، ومن شكا من سوء خلق غيره دل ذلك على سوء خلقه، فإن حسن الخلق احتمال الأذى، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً يمشي ومعه أنس فأدركه أعرابـي فجذبه جذباً شديداً وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية، قال أنس رضي الله عنه: حتى نظرت إلى عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت فيه حاشية البرد من شدّة جذبه، فقال: يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك، ثم أمر بإعطائه ولما أكثرت قريش إيذاءه وضربه قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» ، قيل إنّ هذا يوم أُحُد فلذلك أنزل الله تعالى فيه: {وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ} .
ويحكى أن إبراهيم بن أدهم خرج يوماً إلى بعض البراري فاستقبله رجل جندي فقال: أنت عبد؟قال: نعم، فقال له: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فقال الجندي: إنما أردت العمران؟ فقال: هو المقبرة، فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد فاستقبله أصحابه فقالوا ما الخبر؟ فأخبرهم الجندي ما قال له فقالوا، هذا إبراهيم بن أدهم فنزل الجندي عن فرسهوقبَّل يديه ورجليه وجعل يعتذر إليه، فقيل بعد ذلك له: لم قلت له أنا عبد؟ فقال: إنه لم يسألني: عبد من أنت بل قال: أنت عبد؟ فقلت: نعم، لأني عبد الله، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة قيل كيف وقد ظلمك؟ فقال: علمت أنني أؤجر على ما نالني منه فلم أرد أن يكون نصيبـي منه الخير ونصيبه مني الشر.
ودعي أبو عثمان الحيري إلى دعوة ــــ وكان الداعي قد أراد تجربته ــــ فلما بلغ منزله قال له: ليس له وجه، فرجع أبو عثمان فلما ذهب غير بعيد دعاه ثانياً فقال له: يا أستاذ ارجع فرجع أبو عثمان فقال له مثل مقالته الأولى فرجع،
ثم دعاه الثالثة وقال: ارجع على ما يوجب الوقت فرجع، فلما بلغ الباب قال له مثل مقالته الأولى فرجع أبو عثمان، ثم جاءه الرابعة فرده حتى عامله بذلك مرات وأبو عثمان لا يتغير من ذلك، فأكب على رجليه وقال: يا أستاذ إنما أردت أن أختبرك فما أحسن خلقك فقال: إنّ الذيرأيت مني هو خلق الكلب، إن الكلب إذا دعي أجاب وإذا زجر انزجر.
وروي عنه أيضاً اجتاز يوماً في سكة فطرحت عليه إجانة رماد فنزل عن دابته فسجد سجدة الشكر ثم جعل ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئاً، فقيل: ألا زبرتهم؟ فقال: إن من استحق النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب.
وروي أنّ علي بن موسى الرضا رحمة الله عليه كان لونه يميل إلى السواد ــــ إذ كانت أمه سوداء ــــ وكان بنيسابور حمام على باب داره، وكان إذا أراد دخول الحمام فرغه له الحمامي، فدخل ذات يوم فأغلق الحمامي الباب ومضى في بعض حوائجه، فتقدّم رجل رستاقي إلى باب الحمام ففتحه ودخل فنزع ثيابه ودخل فرأى علي بن موسى الرضا فظن أنه بعض خدام الحمام، فقال له: قم واحمل إليَّ الماء فقام علي بن موسى وامتثل جميع ما كان يأمره به، فرجع الحمامي فرأى ثياب الرستاقي وسمع كلامه مع علي بن موسى الرضا فخاف وهرب وخلاهما، فلماخرج علي بن موسى سأل عن الحمامي فقيل له: إنه خاف مما جرى فهرب. قال: لا ينبغي له أن يهرب إنما الذنب لمن وضع ماءه عند أمة سوداء.
وروي أن أبا عبد الله الخياط كان يجلس على دكانه، وكان له حريف مجوسي يستعمله في الخياطة فكان إذا خاط له شيئاً حمل إليه دراهم زائفة، فكان أبو عبد الله يأخذ منه ولا يخبره بذلك ولا يردّها عليه، فاتفق يوماً أن أبا عبد الله قام لبعض حاجته، فأتى المجوسي فلم يجده فدفع إلى تلميذه الأجرة واسترجع ما قد خاطه فكان درهماً زائفاً، فلما نظر إليه التلميذ عرف أنه زائف فرده عليه، فلما عاد أبو عبد الله أخبره بذلك فقال: بئس ما عملت. هذا المجوسي يعاملني بهذه المعاملة منذ سنة وأنا أصبر عليه وآخذ الدراهم منه وألقيها في البئر لئلا يغرّ بها مسلماً.
وقال يوسف بن أسباط: علامة حسن الخلق عشر خصال؛ قلة الخلاف، وحسن الإنصاف، وترك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو منالسيئات، والتماس المعذرة، واحتمال الأذى، والرجوع بالملامة على النفس، والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره، وطلاقة الوجه للصغير والكبـير، ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه.
وسئل سهل عن حسن الخلق فقال:
ولا يحبب إليه الزينة والرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقع عليه نشوء الصبـي انعجنت طينته منالخبث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث. ومهما رأى فيه مخايل التميـيز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبـيحاً ومخالفاً للبعض فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله تعالى إليه وبشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ، فالصبـي المستحي لا ينبغي أن يهمل بل يستعان على تأديبه بحيائه أو تميـيزه، وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام فينبغي أن يؤدب فيه، مثلأن لا يأخذ الطعام إلا بـيمينه، وأن يقول عليه بسم الله عند أخذه، وأن يأكل مما يليه وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره، وأن لا يحدق النظر إليه ولا إلى من يأكل، وأن لا يسرع في الأكل، وأن يجيد المضغ، وأن لا يوالي بـين اللقم؛ ولا يلطخ يده ولا ثوبه، وأن يعوّد الخبز القفار في بعض الأوقات حتى لا يصير بحيث يرى الأدم حتماً، ويقبح عنده كثرة الأكل بأن يشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم، وبأن يذم بـين يديه الصبـي الذي يكثر الأكل ويمدح عنده الصبـي المتأدب القليل الأكل، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام وقلة المبالاة به والقناعةبالطعام الخشن أي طعام كان، وأن يحبب إليه من الثياب البـيض دون الملون والإبريسم ويقرّر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين وأن الرجال يستنكفون منه ويكرّر ذلك عليه، ومهما رأى على صبـي ثوباً من إبريسم أو ملون فينبغي أن يستنكره ويذمه، ويحفظ الصبـي عن الصبـيان الذين عودوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة، وعن مخالفة كل من يسمعه ما يرغبه فيه، فإن الصبـي مهما أهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذاباً حسوداً سروقاً نماماً لحوحاً ذا فضول وضحك وكياد ومجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب، ثم يشغلفي المكتب، فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين ويحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبـيان بذر الفسادثم مهما ظهر من الصبـي خلق جميل وفعل محمود، فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بـين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبـي واجتهد في إخفائه؛ فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانياً فينبغي أن يعاتب سراً ويعظم الأمر فيه ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفتضح بـين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحياناً، والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح، وينبغي أن يمنع عن النوم نهاراً فإنه يورث الكسل ولا يمنع منه ليلاً ولكن يمنع الفرش الوطيئة حتى تتصلب أعضاؤه ولا يسمن بدنه فلا يصبر عن التنعم؛ بل يعوّد الخشونة في المفرش والملبس والمطعم، وينبغي أن يمنع من كل ما يفعله في خفية فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبـيح، فإذا ترك تعود فعل القبـيح. ويعوّد في بعض النهار المشي والحركة والرياضةحتى لا يغلب عليه الكسل، ويعوّد أن لا يكشف أطرافه ولا يسرع المشي، ولا يرخي يديه بل يضمها إلى صدره، ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه أو بشيء من مطاعمه وملابسه أو لوحه ودواته، بل يعوّد التواضع والإكرام لكل من عاشره والتلطف في الكلام معهم، ويمنع من أن يأخذ من الصبـيان شيئاً بدا له حشمة إن كان من أولاد المحتشمين، بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ وأن الأخذ لؤم وخسة ودناءة، وإن كان من أولاد الفقراء فليعلم أن الطمع والأخذ مهانة وذلة وأن ذلك من دأب الكلب فإنه يبصبص في انتظار لقمة والطمعفيها.
وبالجملة؛ يقبح إلى الصبـيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحيات والعقارب، فإن آفة حب الذهب والفضة والطمع فيهما أضر من آفة السموم على الصبـيان بل على الأكابر أيضاً، وينبغي أن يعوّد أن لا يبصق في مجلسه ولا يمتخط ولا يتثاءب بحضرة غيره ولا يستدبر غيره ولا يضع رجلاً على رجل ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل. ويعلم كيفية الجلوس ويمنع كثرة الكلام ويبـين له أن ذلك يدل على الوقاحة وأنه فعل أبناء اللئام،
ويمنع اليمين رأساً ــــ صادقاً كان أو كاذباً ــــ حتى لا يعتاد ذلك في الصغر، ويمنع أن يبتدىء بالكلام، ويعوّد أن لا يتكلم إلا جواباً وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سناً، وأن يقوم لمن فوقه ويوسع له المكان ويجلس بـين يديه، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من القرناء السوء، وأصل تأديب الصبـيان الحفظ من قرناء السوء. وينبغي إذا ضربه المعلم أن لا يكثر الصراخ والشغب، ولا يستشفع بأحد بل يصبر ويذكر له أن ذلك دأبالشجعان والرجال، وأن كثرة الصراخ دأب المماليك والنسوان. وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتَّاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبـي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً. وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه وكل من هو أكبر منه سناً من قريب وأجنبـي، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم، وأن يترك اللعب بـين أيديهم. ومهما بلغ سن التميـيز، فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاةويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان، ويجنب لبس الديباج والحرير والذهب ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع.
ويخوّف من السرقة وأكل الحرام ومن الخيانة والكذب والفحش، وكل ما يغلب على الصبـيان، فإذا وقع نشوءه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذهالأمور، فيذكر له أن الأطعمة أدوية وإنما المقصود منها أن يقوى الإنسان بها على طاعة الله عز وجل، وأن الدنيا كلها لا أصل لها إذ لا بقاء لها، وإن الموت يقطع نعيمها، وأنها دار ممرّ لا دار مقرّ، وأن الآخرة دار مقرّ لا دار ممرّ، وأن الموت منتظر في كل ساعة، وأنالكيِّس العاقل من تزوّد من الدنيا للآخرة حتى تعظم درجته عند الله تعالى ويتسع نعيمه في الجنان، فإذا كان النشؤ صالحاً كان هذا الكلام عند البلوغ واقعاً مؤثراً ناجعاً يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر. وإن وقع النشؤ بخلاف ذلك حتى ألف الصبـي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس والتزين والتفاخر نبا قلبه عن قبول الحق نبوة الحائط عن التراب اليابس. فأوائل الأمور هي التي ينبغي أن تراعى، فإن الصبـي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبـين.
قال : «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ وَإنَّما أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» .
قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرّك به لسانك، الله معي الله ناظر إليَّ الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشر مرة، فقلته فوقع في قلبـي حلاوته، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده أيعصيه؟ إياك والمعصية، فكنت أخلو بنفسي فبعثوا بـي إلى المكتب فقلت: إني لأخشى أن يتفرّق عليَّ همي ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة فأتعلم ثم أرجع، فمضيت إلى الكتَّاب فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدهر وقوتي من خبز الشعير اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فسألت أهلي أن يبعثوني إلى أهل البصرة لأسأل عنها، فأتيت البصرة فسألت علماءها فلم يشفِ أحد عني شيئاً. فخرجت إلى عبادان إلى رجل يعرف بأبـي حبـيب حمزة بن أبـي عبد الله العباداني فسألته عنها فأجابني، فأقمت عنده مدّة أنتفع بكلامه وأتأدب بآدابه، ثم رجعت إلى تستر فجعلت قوتي اقتصاداً على أن يشتري لي بدرهم من الشعير الفرق فيطحن ويخبز لي، فأفطر عند السحر على أوقية كل ليلة بحتاً من غير ملح ولا أدم، فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة. ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال ثم أفطر ليلة. ثم خمساً، ثم سبعاً، ثمخمساً وعشرين ليلة، فكنت على ذلك عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر وكنت أقوم الليل كله ما شاء الله تعالى. قال أحمد: ما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى.
بـيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة وتدريج المريد في سلوك سبـيل الرياضة:
واعلم أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريداً حرث الآخرة مشتاقاً إليها سالكاً سبلها مستهيناً بنعيم الدنيا ولذاتها، فإن من كانت عنده خرزة فرأى جوهرة نفيسة لم يبق له رغبة في الخرزة وقويت إرادته في بـيعها بالجوهرة،
 
 
 
Partager cet article
Repost0

commentaires

:هـــذا الــفــضاء

  • : ملخصات دروس مادة التربية الإسلامية للسنة الأولى ثانوي تأهيلي
  • : تشتمل هذه المدونة على ملخصات الدروس المقررة في مادة التربية الإسلامية لأقسام السنة الأولى ثانوي تأهيلي بالإضافة بالإضافة إلى شروح وتفاسير
  • Contact

بـــــحــــث