Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
20 juin 2007 3 20 /06 /juin /2007 23:45
imagesCA0KM62H.jpg 
 
تفسير القرطبي ج: 11 ص: 258
إما يأتينكم مني هدى أى رشدا وقولا حقا وقد تقدم في البقرة فمن اتبع هداى يعني الرسل والكتب فلا يضل ولا يشقى قال ابن عباس ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وتلا الآية ومن أعرض عن ذكري أي ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه وقيل عما أنزلت من الدلائل ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول لأنه كان منه الذكر فإن له معيشة ضنكا أي عيشا ضيقا يقال منزل ضنك وعيش ضنك يستوى فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث والجمع قال عنترة إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل وقال أيضا إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل وقريء ضنكى على وزن فعلى ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله عز وجل بسماح وسهولة ويعيش عيشا رافغا كما قال الله تعالى فلنحيينه   حياة طيبة   والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الأزدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده على الانفاق فعيشه ضنك وحاله مظلمة كما قال بعضهم لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه وكان في عيشه ضنك وقال عكرمة ضنكا كسبا حراما الحسن طعام الضريع والزقوم وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر قاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه في كتاب التذكرة قال أبو هريرة يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه وهو المعيشة الضنك ونحشره يوم القيامة أعمى قيل أعمى في حال وبصيرا في حال وقد تقدم في آخر سبحان وقيل أعمى عن الحجة قاله مجاهد وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدي لشيء منها وقيل عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه قال رب لم حشرتني أعمى أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى وقد كنت بصيرا أي في الدنيا وكأنه يظن أنه لا ذنب له وقال ابن عباس ومجاهد أي لم حشرتني أعمى عن حجتي وقد كنت بصيرا أي عالما بحجتي القشيري وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة في الدنيا قال كذلك لأتتك آياتنا أي قال الله تعالى له كذلك أتتك آياتنا أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا فنسيتها أي تركتها ولم تنظر فيها وأعرضت عنها وكذلك اليوم تنسى أي تترك في العذاب يريد جهنم وكذلك نجزي من أسرف أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن وعن النظر في المصنوعات والتفكر فيها وجاوز الحد في المعصية ولم يؤمن بآيات ربه أي لم يصدق بها ولعذاب الآخرة أشد أي أفظع من المعيشة الضنك وعذاب القبر وأبقى أي أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي
فتح القدير ج: 3 ص: 193
 سورة النحل الآية 101 105   هذا شروع فى ترغيب كل مؤمن فى كل عمل صالح وتعميم للوعد ومعنى من عمل صالحا من عمل عملا صالحا أى عمل كان وزيادة التمييز بذكر أو أنثى مع كون لفظ من شاملا لهما لقصد التأكيد والمبالغة فى تقرير الوعد وقيل إن لفظ من ظاهر فى الذكور فكان فى التنصيص على الذكر والأنثى بيان لشموله للنوعين وجملة وهو مؤمن فى محل نصب على الحال جعل سبحانه الإيمان قيدا فى الجزاء المذكور لأن عمل الكافر لا اعتداد به لقوله سبحانه وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ثم ذكر سبحانه الجزاء لمن عمل ذلك العمل الصالح فقال فلنحيينه   حياة طيبة   وقد وقع الخلاف فى الحياة الطيبة بماذا تكون فقيل بالرزق الحلال وروى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك وقيل بالقناعة قاله الحسن البصرى وزيد بن وهب ووهب بن منبه وروى أيضا عن على وابن عباس وقيل بالتوفيق إلى الطاعة قاله الضحاك وقيل الحياة الطيبة هى حياة الجنة روى عن مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وحكى عن الحسن أنه قال لا تطيب الحياة لأحد إلا فى الجنة وقيل الحياة الطيبة هى السعادة روى ذلك عن ابن عباس وقيل هى المعرفة بالله حكى ذلك عن جعفر الصادق وقال أبو بكر الوراق هى حلاوة الطاعة وقال سهل بن عبد الله التسترى هى أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ويرد تدبيره إلى الحق وقيل هى الإستغناء عن الخلق والإفتقار إلى الحق وأكثر المفسرين على أن هذه الحياة الطيبة هى فى الدنيا لا فى الآخرة لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقد قدمنا قريبا تفسير الجزاء بالأحسن ووحد الضمير فى لنحيينه وجمعه فى ولنجزينهم حملا على لفظ من وعلى معناه
 
 
فتح القدير ج: 3 ص: 391
فإما يأتينكم منى هدى بإرسال الرسل وإنزال الكتب فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى أى لا يضل فى الدنيا ولا يشقى فى الآخرة ومن أعرض عن ذكرى أى عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه ولم يتبع هداي فإن له معيشة ضنكا أى فإن له فى هذه الدنيا معيشة ضنكا أى عيشا ضيقا يقال منزل ضنك وعيش ضنك مصدر يستوى فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث قال عنترة   إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل    وقرئ ضنكى بضم الضاد على فعلي ومعنى الآية أن الله عز وجل جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه أن يعيش فى الدنيا عيشا هنيا غير مهموم ولا مغموم ولا متعب نفسه كما قال سبحانه فلنحيينه   حياة طيبة   وجعل لمن لم يتبع هداه وأعرض عن دينه أن يعيش عيشا ضيقا وفى تعب ونصب ومع ما يصيبه فى هذه الدنيا من المتاعب فهو فى الأخرى أشد تعبا وأعظم ضيقا وأكثر نصبا وذلك معنى ونحشره يوم القيامة أعمى أى مسلوب البصر
وقيل المراد العمى عن الحجة وقيل أعمى عن جهات الخير لا يهتدى إلى شيء منها وقد قيل إن المراد بالمعيشة الضنكى عذاب القبر وسيأتي ما يرجح هذا ويقويه قال ربى لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا فى الدنيا قال كذلك أى مثل ذلك فعلت أنت ثم فسره بقوله أتتك آياتنا فنسيتها أى أعرضت عنها وتركتها ولم تنظر فيها وكذلك اليوم تنسى أى مثل ذلك النسيان الذى كنت فعلته فى الدنيا تنسى أى تترك فى العمى والعذاب فى النار قال الفراء يقال إنه يخرج بصيرا من قبره فيعمى فى حشره وكذلك نجزى من أسرف أى مثل ذلك الجزاء نجزيه والإسراف الانهماك فى الشهوات وقيل الشرك ولم يؤمن بآيات ربه بل كذب بها ولعذاب الآخرة أشد أى أفظع من المعيشة الضنكى وأبقى أى أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع   وقد أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم فى الحلية وابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة فى الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة وذلك أن الله يقول فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي فى الشعب من طرق عن ابن عباس قال أجار الله تابع القرآن من أن يضل فى الدنيا أو يشقى فى الآخرة ثم قرأ فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى قال لا يضل فى الدنيا ولا يشقى فى الآخرة وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد فى مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا فى قوله معيشة ضنكا قال عذاب القبر ولفظ عبد الرزاق قال يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ولفظ ابن أبي حاتم قال ضمة القبر وفى إسناده ابن لهيعة وفيه مقال معروف وقد روى موقوفا قال ابن كثير الموقوف أصح وأخرج البزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى قوله فإن له معيشة ضنكا قال المعيشة الضنكى أن يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو يعلي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه بأطول منه قال ابن كثير رفعه منكر جدا وأخرج ابن أبي شيبة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى قوله فإن له معيشة ضنكا قال عذاب القبر قال ابن كثير بعد إخراجه إسناد جيد وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود فى قوله فإن له معيشة ضنكا قال عذاب القبر ومجموع ما ذكرنا هنا يرجح تفسير المعيشة الضنكى بعذاب القبر وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي فى كتاب عذاب القبر عن ابن مسعود أنه فسر المعيشة الضنكى بالشقاء وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابي حاتم عن عكرمة فى قوله ونحشوه يوم القيامة أعمى قال عمى عليه كل شيء إلا جهنم وفى لفظ لا يبصر إلا النار.
تفسير الجلالين ج: 1 ص: 360
97 من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فنحيينه   حياة طيبة   قيل هي حياة الجنة وقيل في الدنيا بالقناعة أو الرزق الحلال ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون
تفسير النسفي ج: 2 ص: 270
من عمل صالحا من ذكر او انثى من مبهم يتناول النوعين إلا ان ظاهره للذكور فبين بقوله من ذكر او أنثى ليعم الموعد النوعين وهو مؤمن شرط الإيمان لأن اعمال الكفار غير معتد بها وهو يدل على ان العمل ليس من الايمان فلنحيينه   حياة طيبة   أي في الدنيا ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وعده الله ثواب الدنيا والآخرة كقوله فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا يعيش عيشا طيبا ان كان موسرا فظاهر وان كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى وأما الفاجر فأمره بالعكس ان كان معسرا فظاهر وان كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه وقيل الحياة الطيبة القناعة أو حلاوة الطاعة أو المعرفة بالله وصدق المقام مع الله وصدق الوقوف على أمر الله والاعراض عما سوى الله.
بـيان السبب الذي به ينال حسن الخلق على الجملة:
قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوّة العقل وكمال الحكمة. وإلى اعتدال قوّة الغضب والشهوة، وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضاً. وهذا الاعتدال يحصل على وجهين.
أحدهما: بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفى سلطان الشهوة والغضب،، بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل والشرع فيصير عالماً بغير تعليم ومؤدباً بغير تأديب، كعيسى ابن مريم ويحيـى بن زكريا عليهما السلام، وكذا سائر الأنبـياء صلوات الله عليهم أجمعين. ولا يبعد أن يكون في الطبعوالفطرة ما قد ينال بالاكتساب فرب صبـي خلق صادق اللهجة سخياً جرياً، وربما يخلق بخلافه، فيحصل ذلك فيه بالاعتياد ومخالطة المتخلقين بهذه الأخلاق، وربما يحصل بالتعلم.
والوجه الثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة وأعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلاً أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجواد وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفاً مجاهداً نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعاً ويتيسر عليه فيصير به جواداً، وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقاً له وطبعاً فيتيسّر عليه. وجميع الأخلاق المحمودة شرعاً تحصل بهذا الطريق، وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذاً فالسخي هو الذي يستلذ بذل المال الذييبذله دون الذي يبذله عن كراهة، والمتواضع هو الذي يستلذ التواضع ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس، ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة وما لم تترك جميع الأفعال السيئة، وما لم تواظب عليه مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعم بها، ويكره الأفعال القبـيحة ويتألم بها، كما قال : «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ» ، ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال فهو النقصان ولا ينال كمال السعادة به. نعم المواظبة عليها بالمجاهدة خير، ولكن بالإضافة إلى تركها لا بالإضافة إلى فعلها عن طوع ولذلك قال الله تعالى: {وإنَّها لَكَبِـيرَةٌ إلاَّ عَلَى الخَاشِعينَ} وقال : «اعْبُدِ الله فِي الرِّضا فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَفِي الصَّبْرِ عَلَى ما تَكْرَهُ خَيْر كَثِيرٌ» ، ثم لا يكفي في نيل السعادة الموعودة على حسن الخلق استلذاذ الطاعة واستكراه المعصية في زمان دون زمان، بلينبغي أن يكون ذلك على الدوام وفي جملة العمر، وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة أرسخ وأكمل، ولذلك لما سئل عن السعادة فقال: «طُولُ العُمُرِ فِي طَاعَةِ الله تَعَالَى» ، ولذلك كره الأنبـياء والأولياء الموت فإن الدنيا مزرعة الآخرة. وكلما كانت العبادات أكثر بطول العمر كان الثواب أجزل والنفس أزكى وأطهر والأخلاق أقوى وأرسخ، وإنما مقصود العبادات تأثيرها في القلب، وإنما يتأكد تأثيرها بكثرة المواظبة على العبادات. وغاية هذه الأخلاق أن ينقطع عن النفس حب الدنيا ويرسخ فيها حب الله تعالى فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله تعالى عز وجل، فلا يستعمل جميع ماله إلا على الوجه الذي يوصله إليه وغضبه وشهوته من المسخرات له فلا يستعملهما إلا على الوجه الذي يوصله إلى الله تعالى، وذلك بأن يكون موزوناً بميزان الشرع والعقل، ثم يكون بعد ذلك فرحاً به مستلذاً له، ولا ينبغي أن يستبعد مصيرالصلاة إلى حد تصير هي قرة العين. ومصير العبادات لذيذة فإن العادة تقتضي في النفس عجائب أغرب من ذلك؛ فإنا قد نرى الملوك والمنعمين في أحزان دائمة، ونرى المقامر قد يغلب عليه من الفرح واللذة بقماره وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار، مع أن القمار ربما سلبه ماله وخرب بـيته وتركه مفلساً ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به، وذلك لطول إلفه له وصرف نفسه إليه مدة. وكذلك اللاعب بالحمام قد يقف طول النهار في حر الشمس قائماً على رجليه وهو لا يحسّ بألمها لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحليقها في جو السماء، بل نرى الفاجر العيار يفتخر بما يلقاه من الضرب والقطع والصبر على السياط، وعلى أن يتقدم به للصلب وهو مع ذلك متبجح بنفسه وبقوّته في الصبر على ذلك، حتى يرى ذلك فخراً لنفسه، ويقطع الواحد منهم إرباً إرباً على أن يقر بما تعاطاه أو تعاطاه غيره فيصر على الإنكار ولا يبالي بالعقوبات فرحاً بما يعتقده كمالاً وشجاعة ورجولية، فقد صارت أحواله مع ما فيها من النكال قرة عينه وسبب افتخاره، بل لا حالة أخس وأقبح من حال المخنث في تشبهه بالإناث في نتف الشعر ووشم الوجه ومخالطة النساء فترى المخنث في فرح بحاله وافتخار بكماله في تخنثه يتباهى به مع المخنثين، حتى يجري بـين الحجامين والكناسينالتفاخر والمباهاة كما يجرى بـين الملوك والعلماء. فكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة ومشاهدة ذلك في المخالطين والمعارف. فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح، فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمتالمواظبة عليه؟ بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع يضاهي الميل إلى أكل الطين فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة؛ فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب فإنه مقتضى طبع القلب فإنه أمر رباني، وميله إلىمقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه، وإنما غذاء القلب الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب وهما سببان لحياتها، فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله، إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معيناً له على حب الله تعالى وعلى دينه، فعند ذلك لا يدل ذلك على المرض. فإذن قد عرفت بهذا قطعاً أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعاً انتهاء، وهذا من عجيبالعلاقة بـين القلب والجوارح ـ أعني النفس والبدن ـ فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب، والأمر فيه دور، ويعرف ذلك بمثال: وهو أن من أراد أن يصير الحذقفي الكتابة له صفة نفسية ــــ حتى يصير كاتباً بالطبع ــــ فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن، فإن فعل الكاتب هو الخط الحسن فيتشبه بالكاتب تكلفاً، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه، فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعاً كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفاً، فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً، ولكن الأول بتكلف إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارحة فصار يكتب الخط الحسن بالطبع.
وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء، وهو التكرار للفقه حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس. وكذلك من أراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير ذلك طبعاً له، فلا علاج له إلا ذلك، وكما أن طالب فقه النفس لا يـيأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة، فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم. وهو معنى قولنا إن الكبـيرة الواحدة لا توجبالشقاء المؤبد ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها، ثم تتداعى قليلاً قليلاً حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأساً فيفوتها فضيلة الفقه. وكذلك صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى يفوت أصل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة. وكما أن تكرار ليلة لا يحس تأثيره في فقه النفس بل يظهر فقه النفس شيئاً فشيئاً على التدريج ــــ مثل نمو البدن وارتفاع القامة ــــ فكذلك الطاعة الواحدة لا يحس تأثيرها في تزكية النفس وتطهيرها في الحال، ولكن لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعة فإن الجملة الكثيرة منها مؤثرة، وإنما اجتمعتالجملة من الآحاد، فلكل واحد منها تأثير، فما من طاعة إلا ولها أثر وإن خفي، فله ثواب لا محالة. فإن الثواب بإزاء الأثر وكذلك المعصية. وكم من فقيه يستهين بتعطيل يوم وليلة وهكذا على التوالي يسوف نفسه يوماً فيوماً إلى أن يخرج طبعه عن قبول الفقه. فكذا من يستهينصغائر المعاصي ويسوف نفسه بالتوبة على التوالي إلى أن يختطفه الموت بغتة أو تتراكم ظلمة الذنوب على قلبه وتتعذر عليه التوبة، إذ القليل يدعو إلى الكثير فيصير القلب مقيداً بسلاسل شهوات لا يمكن تخليصه من مخالبها. وهو المعنى بانسداد باب التوبة وهو المراد بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَـيْنِ أيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} الآية. ولذلك قال علي رضي الله تعالى عنه: إن الإيمان ليبدو في القلب نكتة بـيضاء، كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البـياض، فإذا استكمل العبد الإيمان أبـيضّ القلب كله. وإن النفاق ليبدو في القلب نكتة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق أسودّ القلب كله.
فإذا عرفت أن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، وتارة تكون باعتياد الأفعال الجميلة، وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً. فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلماً فهو في غاية الفضيلة، ومن كان رذلاً بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل، وبـين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات، ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صفته وحالته: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ــــ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
بـيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق:
قد عرفت من قبل أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها. كما أن الاعتدال في مزاج البدن هو صحة له، والميل عن الاعتدال مرض فيه فلنتخذ البدن مثالاً. فنقول:
مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة إليها، مثال البدن في علاجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه. وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال وإنما تعتري المعدة المضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلاً صحيح الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ــــ أي بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل ــــ وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربـية بالغذاء؛ فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال؛ وإنما تكمل بالتربـية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وكما أن البدن إن كان صحيحاً فشأن الطبـيب تمهيد القانون الحافظ للصحة، وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه؛ فكذلك النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة، فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد قوّة إليها واكتساب زيادة صفائها، وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها. فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخي، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفاً. وكما أنه لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب بل أولىفإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب والعياذ بالله تعالى مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد. وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص ــــ ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه وبالكثرة والقلة، ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد ــــ فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار. وكما أن معيار الدواء مأخوذ من عيار العلة حتى إن الطبـيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية؟ فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها.
فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبـيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ويبني على ذلك رياضته. فإن كان المريد مبتدئاً جاهلاً بحدود الشرع فيعلمه أولاً الطهارة والصلاة وظواهر العبادات، وإن كان مشغولاً بمال حرام أو مقارفاً لمعصية فيأمره أولاً بتركها، فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراضقلبه، فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه، وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للكدية والسؤال، فإن عزة النفس والرئاسة لا تنكسر إلا بالذل ولا ذلّ أعظم من ذلكالسؤال فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعز نفسه، فإن الكبر من الأمراض المهلكة وكذلك الرعونة، وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى قلبه مائلاً إلى ذلك فرحاً به ملتفتاً إليه استخدمه في تعهد بـيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة. فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بـينهم وبـين العروس التي تزين نفسها طول النهار، فلا فرق بـين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنماً فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله، ومن راعى في ثوبه شيئاً سوى كونه حلالاً وطاهراً مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه.
ومن لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأساً أو بترك صفة أخرى ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه، كالذي يغسل الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء إذا كان الماء لا يزيل الدم. كما يرغب الصبـي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه، ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه، ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة، فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الجاه دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه، وكذلك سائر الصفات. وكذلك إذا رأى شره الطعام غالباً عليه ألزمه الصوم وتقليل الطعام، ثم يكلفه أن يهيـىء الأطعمة اللذيذة ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه فيتعود الصبر وينكسر شرهه. وكذلك إذا رآه شاباً متشوقاً إلى النكاح وهو عاجز عن الطول فيأمره بالصوم، وربما لا تسكن شهوته بذلك فيأمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء. ويمنعه اللحم والأدم رأساً حتى تذل نفسه وتنكسر شهوته... فلا علاج في مبدإ الإرادة أنفع من الجوع. وإن رأى الغضب غالباً عليه ألزمه الحلم والسكوت وسلط عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق، ويلزمه خدمة من ساء خلقه حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه.
كما حكي عن بعضهم أنه كان يعوّد نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلفنفسه الصبر، ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل. وبعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب، فأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج. وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول الليل على نصبةواحدة. وبعض الشيوخ في ابتداء إرادته كان يكسل عن القيام فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل ليسمح بالقيام على الرجل عن طوع. وعالج بعضهم حب المال بأن باع جميع ماله ورمى به في البحر؛ إذ خاف من تفرقته على الناس رعونة الجود والرياء بالبذل.
فهذه الأمثلة تعرفكطريق معالجة القلوب. وليس غرضنا ذكر دواء كل مرض ــــ فإن ذلك سيأتي في بقية الكتب ــــ وإنما غرضنا الآن التنبـيه على أن الطريق الكلي فيه سلوك مسلك المضاد لكل ما تهواه النفس وتميل إليه، وقد جمع الله ذلك كله في كتابه العزيز في كلمة واحدة فقال تعالى:
{وأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فإنَّ الجَنَّةَ هي المَأْوى} والأصل المهم في المجاهدة الوفاء بالعزم فإذا عزم على ترك شهوة فقد تيسرت أسبابها ويكون ذلك ابتلاء من الله تعالى واختباراً، فينبغي أن يصبر ويستمر، فإنه إن عوَّد نفسه ترك العزم ألفت ذلك ففسدت وإذا اتفق منه نقض عزم، فينبغي أن يلزم نفسه عقوبة عليه ــــ كما ذكرناه في معاقبة النفس في كتاب المحاسبة والمراقبة ــــ وإذا لم يخوّف النفس بعقوبة غلبته وحسنت عنده تناول الشهوة فتفسد بها الرياضة بالكلية.
بـيان علامات أمراض القلوب وعلامات عودها إلى الصحة:
اعلم أنّ كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خلق له حتى لا يصدر منه أصلاً أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب. فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش. ومرض العين أن يتعذر عليها الإبصار. وكذلك مرض القلبأن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله؛ وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُون} ففي كل عضو فائدة وفائدة القلب الحكمة والمعرفة. وخاصية النفس التي للآدمي، ما يتميز بها عن البهائم، فإنه لم يتميز عنها بالقوّة على الأكل والوقاع والإبصار أو غيرها؛ بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه. وأصل الأشياء وموجدها ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء. فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة المحبة فمن عرف الله تعالى أحبه وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا ولا غيرها من المحبوبات. كما قال الله تعالى: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأزْوَاجُكُمْ} إلى قوله: {أحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وجِهَادٍ في سَبـيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يأتي اللَّهُ بأمْرِهِ} فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض، كما أنّ كل معدة صار الطين أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت شهوتها عن الخبر والماء فهي مريضة. فهذه علامات المرض وبهذا يعرف أنّ القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله، إلا أنّ من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها، ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه. وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه فإن دواءه مخالفة الشهوات وهو نزع الروح.
فإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه لم يجد طبـيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء وقد استولى عليهم المرض، فالطبـيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه. فلهذا صار الداء عضالاً والمرض مزمناً واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها. وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات ومراءات. فهذه علامات أصول الأمراض.
وأما علامات عودها إلى الصحة بعد المعالجة فهو أن ينظر في العلة التي لعالجها، فإن كان يعالج داء البخل فهو المهلك المبعد عن الله عز وجل وإنما علاجه ببذل الماء وإنفاقه، ولكنهقد يبذل المال إلى حدّ يصير به مبذراً فيكون التبذير أيضاً داء، فكان كمن يعالج البرودة بالحرارة حتى تغلب الحرارة فهو أيضاً داء، بل المطلوب الاعتدال بـين الحرارة والبرودة. وكذلك المطلوب الاعتدال بـين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية من البعد عنالطرفين، فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظبة على البذل، فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير فارجع إلى المواظبة على الإمساك، فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتسيير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى المال فلا تميل إلى بذلهولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك فكل قلب صار كذلك فقد أتى الله سليماً عن هذا المقام خاصة. ويجب أن يكون سليماً عن سائر الأخلاق حتى لا يكون له علاقة بشيء مما يتعلقبالدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها غير ملتفتة إليها ولا متشوّقة إلى أسبابها، فعند ذلك ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة راضية مرضية داخلة في زمرة عباد الله المقربـين من النبـيـين والصديقين والشهداء والصالحين {وَحَسُنَ أولئكَ رَفِيقاً} .
ولما كان الوسط الحقيقي بـين الطرفين في غاية الغموض، بل هو أدق من الشعر وأحدّ من السيف فلا جرم ومن استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، وقلما ينفك العبد عن ميل عن الصراط المستقيم ــــ أعني الوسط ــــ حتى لا يميل إلىأحد الجانبـين فيكون قلبه متعلقاً بالجانب الذي مال إليه.
ولذلك لا ينفك عن عذاب ما واجتياز على النار وإن كان مثل البرق قال الله تعالى: {وإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضياً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه. ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقيمَ} إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
فقد روي أنّ بعضهم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: قد قلت يا رسول الله شيبتني هود، فلم قلت ذلك؟ فقال عليه السلام لقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} فالاستقامة على سواء السبـيل في غاية الغموض، ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقتها. فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عنالأخلاق الحسنة فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليعدّدها وليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب. فنسأل الله الكريم أن يجعلنا من المتقين.
بـيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه:
اعلم أنّ الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه. فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:
الأول: أن يجلس بـين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته. وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه، فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه. وهذا قد عز في هذا الزمان وجوده.
الثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبهه عليه، فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين.
كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله أمرأً أهدى إليّ عيوبـي. وكان يسأل سلمان عن عيوبه، فلما قدم عليه قال له: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ فاستعفى فألح عليه فقال: بلغني أنك جمعت بـين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل، قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا، فقال: أما هذان فقد كفيتهما. وكان يسأل حذيفة ويقول له أنت صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين،
فهل ترى عليَّ شيئاً من آثار النفاق؟ فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه.
فكل من كان أوفر عقلاً وأعلى منصباً كان أقل إعجاباً وأعظم اتهاماً لنفسه، إلا أن هذا أيضاً قد عز فقل في الأصدقاء من يترك المداهنة فيخبر بالعيب، أو يترك الحسد فلا يزيد على قدر الواجب. فلا تخلو في أصدقائك عن حسود أو صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيباً، أو عن مداهن يخفي عنك بعض عيوبك.
ولهذا كان داود الطائي قد اعتزل الناس فقيل له: لم لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبـي؟ فكانت شهوة ذوي الدين أنينتبهوا لعيوبهم بتنبـيه غيرهم، وقد آل الأمر في أمثالنا إلى أنّ أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرّفنا عيوبنا. ويكاد هذا أن يكون مفصحاً عن ضعف الإيمان فإنّ الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة، فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقرباً لتقلدنا منه منة وفرحنا به واشتغلنا بإزالة العقرب وإبعادها وقتلها، وإنما نكايتها على البدن ويدوم ألمها يوماً فما دونه، ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى أن تدوم بعد الموت أبداً أو آلافاً من السنين. ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته فنقول له: وأنت أيضاً تصنع كيت وكيت وتشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه، ويشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب. وأصل كل ذلك ضعف الإيمان. فنسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا ويبصرنا بعيوبنا ويشغلنا بمداواتها ويوفقنا للقيام بشكرمن يطلعنا على مساوئنا بمنه وفضله.
الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فإن عين السخط تبدي المساوئا. ولعل انتفاع الإنسان بعدوّ مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيبالعدوّ وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو من الانتفاع بقول أعدائه فإن مساوئه لا بدّ وأن تنتشر على ألسنتهم.
الطريق الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بـين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيرهعيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى. فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب.
قيل لعيسى عليه السلام: من أدبك؟ قال ما أدبني أحد، رأيت جهل الجاهل شيناً فاجتنبته. وهذا كله حيل من فقد شيخاً عارفاً ذكياً بصيراً بعيوب النفس مشفقاً ناصحاً في الدين فارغاً من تهذيب نفسه مشتغلاً بتهذيب عباد الله تعالى ناصحاً لهم، فمن وجد ذلك فقد وجد الطبـيب فليلازمه فهو الذي يخلصه من مرضه وينجيه من الهلاك الذي هو بصدده.
Partager cet article
Repost0

commentaires

:هـــذا الــفــضاء

  • : ملخصات دروس مادة التربية الإسلامية للسنة الأولى ثانوي تأهيلي
  • : تشتمل هذه المدونة على ملخصات الدروس المقررة في مادة التربية الإسلامية لأقسام السنة الأولى ثانوي تأهيلي بالإضافة بالإضافة إلى شروح وتفاسير
  • Contact

بـــــحــــث