منهاج السنة النبوية ج: 5 ص: 264
فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما ا ختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات فاختلفوا للبغي والظلم لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم وهذ حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم فيبغى بعضهم على بعض. ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغى على الآخر فيكذب بما معه من الحق مع علمه أنه حق ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم أنه باطل وهؤلاء كلهم مذمومون ولهذا كان أهل الإختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة فإنه ما منهم إلا من خالف حقا واتبع باطلا ولهذا أمر الله الرسل أن تدعوا إلى دين واحد وهو دين الإسلام ولا يتفرقوا فيه وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم قال تعالى» شرع لكممن الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه« سورة الشورى 13 وقال في الآية الأخرى » يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون« سورة المؤمنون 51_ 53 أي كتبا اتبع كل قوم كتابا مبتدعا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله» وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة « سورة البينة 5 وقال في الآية الأخرى» فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون. « سورة الروم30 32. فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأعاد حرف من ليبين أن الثاني بدل من الأول والبدل هو المقصود بالكلام وما قبله توطئة له وقال تعالى » ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم « سورة هود 110 إلى قوله»ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم« سورة هود 18 119 فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون وقد ذكر في غير موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام كما قال تعالى عن نوح » وأمرت أن أكون من المسلمين« سورة النمل 91 وقال عن إبراهيم » إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين «
منهاج السنة النبوية ج: 5 ص: 268
وقد تدبرت كتب الإختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ولأبي عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الإختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه و كان عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الإختلاف بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه بل لا يعرفونه ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام ولهذا يوجد الحاذق ا
منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك إذ لم يجد في الإختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلي دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب كما قال أبو المعالي وقت السياق» لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهونى عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي« وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد وفي آخر عمره اشتغل بالحديث بالبخاري ومسلم وكذلك الشهر ستاني مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والإختلاف وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام .
بيان تلبيس الجهمية ج: 1 ص: 140
وجملة الخلاف على ضربين خلاف مع الخارجين عن الملة المنكرين لكلمة التوحيد وإثبات النبوة أعني نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وخلاف مع أهل القبلة المنتسبين إلى الملة فأما الخلاف مع الخارجين عن الملة فعلى ثلاثة أضرب خلاف مع المنكرين للصانع والقائلين بقدم العالم وخلاف مع القائلين بحدوث العالم المثبتين للصانع المنكرين للنبوات أصلا كالبراهمة ; وخلاف مع القائلين ببعض النبوات المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فجعل ثبوت الصانع وحدوث العالم قولا وإنكار الصانع وقدم العالم قولا ولم يذكر قولا ثالثا بإثبات الصانع وقدم العالم لأن ذلك كالمتنافي عند جمهور المتكلمين فلا يجعل قولا قائما بنفسه . وأما الرازي وأمثاله فيذكرونان الدهرية أعم من هذا , بحيث أدخلوا فيهم هذا القسم الذي هو قول المشائين أر سطو وذويه وقول غيرهم. فقال في كتاب نهاية العقول المسألة الرابعة في تفصيل الكفار : قال الكافر إما أن يكون معترفا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم اولا يكون فإن لم يكن فإما أن يكونوا معترفين بشيء من النبوات وهم اليهود والنصارى وغيرهم وإما أن لا يعترفوا بذلك , وهم إما أن يكونوا مثبتين للفاعل المختار وهم البراهمة وأما أن لا يثبتوه وهم الدهرية على اختلاف أصنافهم, وكذلك قال غير هذا مثل ابن الهيصم وأمثاله قالوا قالت الدهرية من منكري الصانع ومثبتيه أن العالم على هيئة ما تراه عليه قد كان لم يزل إلا أن من أثبت الصانع منهم زعم أنه مصنوع لم يتأخر في الوجود عن صانعه وإليه ذهب أرسطو طاليس ومن قال بقوله وقال أهل التوحيد بل هو مصنوع محدث لم يكن ثم كان ولا ريب إنكار الصانع بالكلية قول السمنية الذين ناظرهم الجهم بن صفوان وغيرهم من الدهرية وكطوائف غير هؤلاء من الأمم المتقدمة وأما الدهرية اليونان أتباع أرسطو وذويه ونحوهم فهم مع كونهم دهرية يقرون بأن العالم معلول.
كشف الظنون ج: 1 ص: 11
علم المناظرة وعلم الخلاف والجدل لم يظهر ادراجها في علوم المتشرعة ولا في علوم الفلاسفة لا يقال الظاهر ان الخلاف والجدل باب من أبواب المناظرة تسمى باسم كالفرائض بالنسبة الى الفقه لأنا نقول الغرض في المناظرة إظهار الصواب والغرض من الجدل والخلاف الالزام ثم ان المتشرعة صنفوا في الخلاف وبنوا عليه مسائل الفقه ولم يعلم تدوين الحكماء فيه فالمناسب عده من الشرعيات والحكماء بنوا مباحثهم على المناظرة لكن لم يدونوا.
كشف الظنون ج: 1 ص: 721
علم الخلاف وهو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبه وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية وهو الجدل الذي قسم من المنطق الا انه خص بالمقاصد الدينية وقد يعرف بأنه علم يقتدر به على حفظ أي وضع كان بقدر الإمكان ولهذا قيل الجدلي اما مجيب يحفظ وضعا أو سائل يهدم وضعا وقد سبق في علم الجدل وذكر بن خلدون في مقدمته ان الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثير فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وانظارهم خلافا لا بد من وقوعه واتسع في الملة اتساعا عظيما وكان للمقلدين ان يقلدوا من شاؤوا ثم لما انتهى ذلك الى الأئمة الأربعة وكانوا بمكان من حسن الظن اقتصر الناس على تقليدهم فاقيمت هذه الأربعة أصولا للملة واجري الخلاف بين المتمسكين بها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب امامه يجري على أصول صحيحة يحتجبها كل على صحة مذهبه فتارة يكون الخلاف بين الشافعي ومالك وأبو حنيفة يوافق أحدهما وتارة بين غيرهم كذلك وكان في هذه المناظرات بيان ماخذ هؤلاء فيسمى بالخلافيات ولا بد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها الى استنباط الاحكام كما يحتاج إليها المجتهد الا ان المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلاف يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل من ان يهدمها المخالف بادلته وهو علم جليل الفائدة وكتب الحنفية والشافعية أكثر من تآليف المالكية لان أكثرهم أهل المغرب وهو بادية وللغزالي فيه كتاب التلخيص جلبة من المشرق ولأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة ولابن القصار من المالكية عيون الامام انتهى ومن الكتب المؤلفة أيضا المنظومة النسفية وخلافيات الامام الحافظ أبي بكر احمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى سنة 458 ثمان وخمسين وأربعمائة جمع فيه المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي … .
إيثار الحق على الخلق ج: 1 ص: 18
وأعجب من كل عجيب تكفير بعضهم لبعض بسبب الإختلاف في هذه المحارات الخالية من ذلك كله وقد قال الله تعالى بعد الأمر بوفاء الكيل والوزن لا نكلف نفسا إلا وسعها مع وضوح الوفاء فيهما وامكان الإحتياط فكيف حيث يدق ويتعذر فيه الإحتياط لكن قد يمكن أن لا يسامحوا في ذلك من جهة أن الضرورة بل الحاجة لم تدع إليه كالوزن هذا مع ما في التكفير للمخطئ في هذه الدقائق من المفسدة وذلك عدم جسرة الناظر على المخالفة لأنها صارت مثل الردة من الدين ولولا ذلك لاتضح كثير من الدقائق فإن أوائل أهل علم الكلام لابد أن يقصروا كما هو العادة الدائمة في كل من ابتدأ ما لم يسبق إليه فلما كفروا المخالف كتم بعضهم المخالفة وتكلف بعضهم الموافقة بالتأويل البعيد وفسد الاكثرون وقد ذكر نحو هذا في دلائل اعجاز القرآن أنه أسلوب مبتدأ جاء على الكمال فخرق العادات بذلك على أن في علم الكلام من الخطر ما لا يتعرض له حازم بعد معرفته وذلك ما ذكره السيد المؤيد بالله فانه ذكر في أواخر كتابه ما ذكره في الزيادات ما لفظه, فصل فيما يجب على العامي والمستفتي. قال : والأولى عندي ترك الخوض فيما لا تمس الحاجة إلى معرفته من علم الكلام لأن الصحيح من المذهب أن الجهل قبيح ويجوز أن يصيره إلى حالة يستحق صاحبها الخلود في النار وهذا غير مأمون لو نظر في مسألة من الكلام.
فتح القدير ج: 1 ص: 213
قوله » كان الناس أمة واحدة« أي كانوا على دين واحد فاختلفوا فبعث الله النبيين ويدل على هذا المحذوف أعني قوله فاختلفوا قراءة ابن مسعود فإنه قرأ » كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين « واختلف في الناس المذكورين في هذه الآية من هم فقيل هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم وقيل آدم وحده وسمى ناسا لأنه أصل النسل وقيل آدم وحواء وقيل المراد القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح وقيل المراد نوح ومن في سفينته وقيل معنى الآية كان الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين وقيل المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع وجهلهم بالحقائق لولا أن الله من عليهم بإرسال الرسل والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء أي قصدته أي مقصدهم واحد غير مختلف قوله فبعث الله النبيين قيل جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر وقوله مبشرين ومنذرين بالنصب على الحال قوله وأنزل معهم الكتاب أي الجنس وقال ابن جرير الطبري إن الألف واللام للعهد والمراد التوراة وقوله ليحكم مسند إلى الكتاب في قول الجمهور وهو مجاز مثل قوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق وقيل إن المعنى ليحكم كل نبي بكتابه وقيل ليحكم الله والضمير في قوله فيه الأولى راجع إلى ما في قوله فيما اختلفوا فيه والضمير في قول وما اختلف فيه يحتمل أن يعود إلى الكتاب ويحتمل أن يعود إلى المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاله الزجاج ويحتمل أن يعود إلى الحق وقوله إلا الذين أوتوه أي أوتوا الكتاب أو أوتوا الحق أو أوتوا النبي أي أعطوا علمه وقوله بغيا بينهم منتصب على أنه مفعول به أي لم يختلفوا إلا للبغي أي الحسد والحرص على الدنيا وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم والقبيح الذي وقعوا فيه لأنهم جعلوا نزول الكتاب سببا في شدة الخلاف وقوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق أي فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحق وذلك بما بينه لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم وقيل معناه فهدى الله أمة محمد للتصديق بجميع الكتب بخلاف من قبلهم فإن بعضهم كذب كتاب بعض وقيل إن الله هداهم إلى الحق من القبلة وقيل هداهم ليوم الجمعة وقيل هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذبته اليهود وجعلته النصارى ربا وقيل المراد بالحق الإسلام وقال الفراء إن في الآية قلبا وتقديره فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه واختاره ابن جرير وضعفه ابن عطية وقوله بإذنه قال الزجاج معناه بعلمه .
تفسير الجلالين ج: 1 ص: 44
كان الناس أمة واحدة على الإيمان فاختلفوا بأن آمن بعض وكفر بعض فبعث الله النبيين إليهم مبشرين من أمن بالجنة ومنذرين من كفر بالنار وأنزل معهم الكتاب بمعنى الكتب بالحق متعلق بأنزل ليحكم به بين الناس فيما اختلفوا فيه من الدين وما اختلف فيه أي الدين إلا الذين أوتوه أي الكتاب فآمن بعض وكفر بعض من بعد ما جاءتهم البينات الحجج الظاهرة على التوحيد ومن متعلقة باختلف وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء في المعنى بغيا من الكافرين بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من للبيان الحق بإذنه بإرادته والله يهدي من يشاء هدايته إلى صراط مستقيم طريق الحق
تفسير النسفي ج: 1 ص: 102
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا أو كان الناس أمة واحدة كفارا فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه مبشرين بالثواب للمؤمنين ومنذرين بالعقاب للكافرين وهما حالان وأنزل معهم الكتاب أى مع كل واحد منهم كتابه بالحق بتبيان الحق ليحكم الله او الكتاب اوالنبى المنزل عليه بين الناس فيما اختلفوا فيه فى دين الإسلام الذى اختلفوا فيه بعد الاتفاق وما اختلف فيه فى الحق إلا الذين أوتوه أى الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب من بعد ما جاءتهم البينات على صدقه بغيا بينهم مفعول له أى حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه أى هدى الله الذين آمنوا للحق الذى اختلف فيه من اختلف فيه من الحق بيان لما اختلفوا فيه بإذنه بعلمه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج: 12 ص: 6
قال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه. والاختلاف نوعان اختلاف فى تنزيله واختلاف فى تأويله والمختلفون الذين ذمهم الله هم المختلفون فى الحق بأن ينكر هؤلاء الحق الذى مع هؤلاء أو بالعكس فإن الواجب الإيمان بجميع الحق المنزل فاما من آمن بذلك وكفر به غيره فهذا اختلاف يذم فيه أحد الصنفين كما قال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض إلى قولهولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر والاختلاف فى تنزيله أعظم وهو الذى قصدنا هنا فنقول الإختلاف فى تنزيله هو بين المؤمنين والكافرين فإن المؤمنين يؤمنون بما أنزل والكافرون كفروا بالكتاب وبما ارسل الله به رسله فسوف يعلمون فالمؤمنون بجنس الكتاب والرسل من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين يؤمنون بذلك والكافرون بجنس الكتاب والرسل من المشركين والمجوس والصابئين يكفرون بذلك وذلك أن الله أرسل الرسل إلى الناس لتبلغهم كلام الله الذي أنزله إليهم فمن آمن بالرسل آمن بما بلغوه عن الله ومن كذب بالرسل كذب بذلك فالإيمان بكلام الله داخل فى الإيمان برسالة الله إلى عباده والكفر بذلك هو الكفربهذا فتدبر هذا الأصل فإنه فرقان هذا الاشتباه ولهذا كان من يكفر بالرسل تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على بشر كما أنه قد يكفر برب العالمين مثل فرعون وقومه قال الله تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذرالناس الآية وقال تعالى عن نوح وهود أوعجبتم ان جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم وقال وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء إلى آخر الكلام.
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج: 12 ص: 341
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين اليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون. وقال تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى اليه من يشاء ويهدى اليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وان الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج: 12 ص: 465
قال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. وقال تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا. وقال تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله. بل على الناس أن يلتزموا الأصول الجامعة الكلية التي اتفق عليها سلف الأمة وأئمتها فيؤمنون بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل وليس لأحد ان يكفر أحدا من المسلمين وان أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول الا بعد إقامة الحجة وازالة الشبهة. وأما تكفير قائل هذا القول فهو مبنى على أصل لا بد من التنبيه عليه فإنه بسبب عدم ضبطه اضطربت الأمة اضطرابا كثيرا في تكفير أهل البدع والأهواء كما اضطربوا قديما وحديثا في سلب الايمان عن أهل الفجور والكبائر وصار كثير من أهل البدع مثل الخوارج والروافض والقدرية والجهمية والممثلة يعتقدون اعتقادا هو ضلال يرونه هو الحق ويرون كفر من خالفهم في ذلك فيصير فيهم شوب قوي من أهل الكتاب في كفرهم بالحق وظلمهم للخلق ولعل اكثر هؤلاء المكفرين يكفر بالمقالة التي لا تفهم حقيقتها ولا تعرف حجتها وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه وما عرفوه منه قد لا يبينونه للناس بل يكتمونه ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة ولا يذمون أهل البدع ويعاقبوهم بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذما مطلقا لا يفرقون فيه بين ما دل عليه الكتاب والسنة والاجماع وما يقوله أهل البدعة والفرقة أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة كما يقر العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل ويؤمن به ويبلغه ويدعو إليه .
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج: 16 ص: 490
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ثم قال و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما إختلفوا فيه من الحق بإذنه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فأخبر أن الله هدى المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فكان الإختلاف قبل و جود أمة محمد صلى الله عليه و سلم. و قال تعالى : إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه و إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. و قال تعالى : و لقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق و رزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ثم قال تعالى : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين. و قال تعالى : تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهما لشيطان أعمالهم فهو و ليهم اليوم و لهم عذاب أليم و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه و هدى و رحمة لقوم يؤمنون. فقد أخبر تعالى أنه أرسل إلى أمم من قبل محمد و أن الشيطان زين لهم أعمالهم و هو حين يبعث محمد و ليهم و أنه أنزل إليهم الكتاب ليبين لهم الذي اختلفوا فيه. و قال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون و إنه لهدى و رحمة للمؤمنين. و قال لأمة محمد : و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات و أولئك لهم عذاب عظيم. فهذا بين أنهم تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات قبل محمد و قد نهى الله أمته أن يكونوا مثلهم ; و قد قال تعالى : و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة. و قال عن اليهود : و ألقينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة. وقال : و قطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون و منهم دون ذلك. و قد جاءت الأحاديث فى السنن و المسند من و جوه عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال تفرقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة و ستفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة و إن كان بعض الناس كابن حزم يضعف هذه الأحاديث فأكثر أهل العلم قبلوها و صدقوها
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج: 16 ص: 492
وفى الصحيحين عن النبى صلىالله عليه و سلم أنه قال ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و إختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه و إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما إستطعتم و فى الصحيحين عنه أنه قال نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا و أوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي إختلفوا فيه فهدانا الله له الناس لنا فيه تبع غدا لليهود و بعد غد للنصارى و هذا معلوم بالتواتر أن أهل الكتاب إختلفوا و تفرقوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه و سلم بل اليهود إفترقوا قبل مجيء المسيح ثم لما جاء المسيح إختلفوا فيه ثم إختلف النصارى إختلافا آخر فكيف يقال أن قوله و ما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة هو فيمن لم يؤمن بمحمد منهم و أيضا فالذين كفروا بمحمد كفار و هم المذكورون في قوله لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة و هم تفرقوا و اختلفوا فيما جاءت به الأنبياء قبل محمد و كفر من كفر منهم قبل إرسال محمد و كان منهم من لم يكفر بل كان مؤمنا بالأنبياء كما قال تعالى : و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون و قطعناهم فى الأرض أمما منهم الصالحون و منهم دون ذلك. و قال تعالى : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون يؤمنون بالله و اليوم الآخر و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يسارعون فى الخيرات و أولئك من الصالحين. و قال تعالى : و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة و كثير منهم ساء ما يعملون. و فى صحيح مسلم و غيره عن عياض بن حمار عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب و أن ربى قال لي قم فى قريش فأنذرهم فقلت أي رب إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة فقال إنى مبتليك و مبتل بك و منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما و يقظانا فابعث جندا نبعث مثليهم و قاتل بمن أطاعك من عصاك و الحديث أطول من هذاو المقصود هنا الكلام على الآية فنقول القول الثالث و هو أصح الأقوال لفظا و معنى أما من جهة اللفظ و دلالته و بيانه فإن هذا اللفظ هو مستعمل فيما يلزم به الإنسان يعنى إختياره و يقهر عليه إذا تخلص منه يقال إنفك منه كالأسير و الرقيق المقهور بالرق و الأسر يقال فككت الأسير فإنفك و فككت الرقبة قال تعالى و ما أدراك ما العقبة فك رقبة و قال النبى صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عودوا المريض و أطعموا الجائع و فكوا العانى و فى الصحيح أيضا أن عليا لما سئل عما في الصحيفة فقال فيها العقل و فكاك الأسير و أن لا يقتل مسلم بكافر ففكه فصله عمن يقهره و يستولى عليه بغير إختياره و التفريق بينهما و يقال فلان ما يفك فلانا حتى يوقعه فى كذا و كذا و المتولي لا يفك هذا حتى يفعل كذا يقال لمن لزم غيره و استولى عليه إما بقدرة و قهر و إما بتحسين و تزيين و أسباب حتى يصير بها مطيعا له.
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج: 16 ص: 514
الإختلاف في كتاب الله نوعان أحدهما يذم فيه المختلفين كلهم كقوله و إن الذين إختلفوا فى الكتاب لفى شقاق بعيد و قوله و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و الثاني يمدح المؤمنين و يذم الكافرين كقوله و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات و لكن إختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر و لو شاء
كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير ج: 16 ص: 515
الله ما إقتتلوا و لكن الله يفعل ما يريد و قوله هذان خصمان إختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار إلى قوله إن الله يدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قوله إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئين و النصارى و المجوس و الذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد وإذا كان كذلك فالذي ذمه من تفرق أهل الكتاب و إختلافهم ذم فيه الجميع و نهى عن التشبه بهم فقال و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات و قال و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم و ذلك بأن تؤمن طائفة ببعض حق و تكفر بما عند الأخرى من الحق و تزيد فى الحق باطلا كما إختلف اليهود و النصارى فى المسيح و غير ذلك و حينئذ نقول من قال إن أهل الكتاب ما تفرقوا فى محمد إلا من بعد ما بعث إرادة إيمان بعضهم و كفر بعضهم كما قاله طائفة فالمذموم هنا من كفر لا من آمن فلا يذم كل المختلفين و لكن يذم من كان يعرف أنه رسول فلما جاء كفر به حسدا أو بغيا كما قال تعالى و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ن فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين وإن أريد بالتفرق فيه أنهم كلهم كفروا به و تفرقت أقوالهم فيه فليس الأمر كذلك و قد بين القرآن فى غير موضع أنهم تفرقوا و اختلفوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه و سلم فإختلاف هؤلاء و تفرقهم في محمد صلى الله عليه و سلم هو من جملة ما تفرقوا و إختلفوا فيه و الله أعلم.